ميرنا بامية... استضافات تحكي قصص الأكل الفلسطينيّ | حوار

الفنّانة والطاهية ميرنا بامية

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

عرف المؤرّخون العرب القدامى أهمّيّة إحالة المأكولات إلى قصصها وتاريخها، أو ربّما العكس، عبر فهْم التاريخ والقصص من خلال الطعام؛ فالطبخ عند الإنسان لم يبدأ، كما تشير الحفريّات، إلّا مع ظهور المواقد الحجريّة قبل ربع مليون سنة. لكنّ السؤال هو عمّن يربط مأكولاتنا بقصصنا الحاليّة الّتي ستصير في المستقبل تاريخنا.

مشروع "استضافات فلسطين" الّذي أسّسته وتقوم عليه الفنّانة البصريّة ميرنا بامية، يبدو أكثر كثيرًا من مشروع لحفظ المأكولات الأصليّة المرتبطة بالأرض الفلسطينيّة، يبدو كأنّه مؤرّخ معاصر لعالم الأفكار السياسيّة والاجتماعيّة والأنثربولوجيّة الّتي تتكوّن وتُخْلَق، بحسب ميرنا، خلال عمليّة استعادة التاريخ والمعرفة، الّتي فُقِدَتْ بشكل طبيعيّ منّا، وبشكل لا طبيعيّ بفعل بشريّ كالاحتلال الإسرائيليّ وأشكال الاستعمار الأخرى.

في هذا الحوار الّذي أجريناه في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع ميرنا بامية، نتعرّف فكرًا وسيعًا يُبنى من خلال حاسّة الذوق، ويتفرّع ليكون فكرنا الجمعيّ اللازم من أجل بناء هويّتنا المعاصرة، المتّكئة حقًّا على الماضي، لكن المرنة والمفتوحة على التغييرات العالميّة الحاصلة، وعلى الضيوف العالميّين الجالسين على المائدة الفلسطينيّة.

 

فُسْحَة: كيف بدأ مشروع "استضافات فلسطين"؟ وكيف وصلتِ إلى المطبخ من الفنّ البصريّ؟

ميرنا: الكثير من الناس لا يعلمون أنّي مارست الفنّ البصريّ قبل ذلك، وأنّ مشروع "استضافات فلسطين" امتداد لبحث سبقه بعشر سنوات. إنّ العمل الّذي أحبّ دائمًا أن أستهلّ به ملفّي الفنّيّ هو خريطة بيضاء، خريطة اللاشيء؛ أتخيّل العالم من خلالها خاليًا من الحدود. ركيزة هذا العمل وأعمال أخرى لاحقة هي ثيمة الاختفاء، الّتي وظّفتها مثلًا في عمل "لأعبر أرض بياضهم". فيه تناولت حدثًا سياسيًّا عبر فيه لاجئون فلسطينيّون من سوريا حدود الجولان، أزلت الخلفيّة الّتي تشير إلى الجغرافيا والتاريخ، وجعلتهم يعبرون أرضًا من بياض؛ فتحوّلت حركتهم من عبور خطير في أرض من الألغام إلى عبور خفيف كأنّه رقصة. هذه اللحظة الّتي عبّرت عن العودة المتخيّلة اختزلت لحظات تاريخيّة متعدّدة، وكانت مفصليّة بالنسبة إليّ في فهم هويّتي. أنتجت، أيضًا، عملًا يخاطب الذاكرة، يقوم على النسيان واستعادة الذاكرة من خلال "لعبة"؛ فكانت طريقتي من أجل فهْم الذاكرة. أتذكّر قصّة سمعتها في "المتحف الوطنيّ" في لبنان: خلال الحرب الأهليّة، عرف القيّمون على المتحف أنّ الجنود الإسرائيليّين سيصلون إلى المتحف وسيدمّرونه، ففكّروا في طريقة يحفظون فيها الذاكرة للمستقبل... حفروا أرضيّة المتحف وخبّؤوا مقتنياته وصبّوا الأسمنت فوقها، فلم تُصَب بأيّ أذًى. أثّرت فيّ هذه القصّة كثيرًا. أيّ نوع من الأسمنت نصبّ نحن فوق ذاكرتنا؟ ما الّذي نحفظه للأجيال الجديدة؟ حاولت أن أفهم معنى النسيان حتّى أتمكّن من إدراك معنى الذاكرة، ففعل التذكّر وتكراره، مرتبط حتمًا بفعل النسيان، وعلى هذا فإنّ هوسي بمفهوم الاختفاء والهويّة فتح لي مساحات تفكير مرتبطة بإخفاء عناصر في هويّتنا الفلسطينيّة. إذا ما أزلنا الأرض، فماذا سيتبقّى من هويّتنا؟

امتدّ هذا البحث حتّى تشكّل مشروع "استضافات فلسطين"، أنا منشغلة بالمأكولات الّتي تختفي هي كذلك، تُشغلني الأكلة منذ لحظة اختفائها حتّى لحظة عودتها إلى الذاكرة. إنّ البحث في هذه اللحظة واستعادة المعرفة إلى الذاكرة يسهمان في تحوّل مفاهيمنا تجاه التاريخ والطعام والهويّة.

 

فُسْحَة: كيف؟ كيف يرتبط تاريخ مأكولاتنا بتاريخنا السياسيّ؟

ميرنا: أعتبر أنّ وصفات الطعام قصص في حدّ ذاتها، أنت تهضمينها في ذاكرتك ومن خلال أفكارك. أحاول أن أفهم العودة والتغييرات السياسيّة الحادّة الّتي مرّ بها جيلنا. نحن عشنا الانتفاضتين وأوسلو وخيبات أمل وأشياء أخرى خاصّة بجيل الثمانينات. أحاول، من خلال ممارستي للمشروع، أن أفهم ما معنى أن تنتمي إلى مكان إشكاليّ، وكيف تنتمي إلى قصصه، وتعيد رسم علاقتك بالأرض من خلال المقاومة بصفتها فعلًا يوميًّا، وليس بمفهومها التقليديّ الّذي عرفناه، بل بصفتها فعلًا نكتسب المعرفة من خلاله، تلك الّتي امتلكتها جدّاتنا في صلتهنّ بالأرض؛ إذ إنّ الأرض ليست فكرة مجرّدة في شعار، بل تلك الّتي تعطيها من جسدك فتعيد لك عطاءك. نحن جيل عاش ضياعًا حقيقيًّا لهذه الأرض، لكنّها أملنا الوحيد. الأرض لا تُنْتِج الأغذية فحسب، بل المعرفة أيضًا. إنّ وصفات الطعام الفلسطينيّة تعكس علاقة حميمة تربط الفلّاح بأرضه، وللأسف، في ظلّ الحداثة والثورة الصناعيّة بدأنا نفقد هذه العلاقة. أشعر بأنّ "استضافات فلسطين" تساعدني في فهم جوهر أن تكون فلسطينيًّا، وكيف يمكن الجذور أن تكون حجر أساس لمستقبل الجيل الجديد. نلحظ أنّ الناس يلتفتون نحو هذه المعرفة، يعودون إلى الحكمة القديمة الّتي تتّكئ على تقدير الأرض والاستفادة منها، وعلى عدم ضمان الغد. هذا ما نمرّ به في ظلّ جائحة كورونا. الكثير من الناس حاولوا تعلّم الخَبْز مثلًا وقدرات الإنتاج الذاتيّة، في الوقت الّذي اعتدنا فيه على أنّ الغد موجود بشكل حتميّ.

 

فُسْحَة: ما معنى أن تُقدّمي مشروع "استضافات فلسطين" في مساحات فنّيّة؟ وما المقولة الّتي ترافق تقديمه؟    

ميرنا: قبل "استضافات فلسطين"، قدّمت ما يسمّى بالفنّ الحيّ. يعتمد العمل على اللحظة الآنيّة الّتي تُخْلَق مع المتلقّي. أطلقت مثلًا مشروع "بطاطا توكس"؛ إذ حضور الفنّان الجسديّ هو الوسيط الّذي تتسرّب منه المعرفة. مع "استضافات فلسطين"، أصبح العرض الحيّ يكمن في طاولة الأكل وقائمة الطعام وأنا ساردة القصص. ثمّة حبكة في العرض، تعتمد على البحث والأداء والمعرفة ثمّ الأكل، تصبح الطاولات أَعْشِيَة أدائيّة. أقدّم هذه العروض في متاحف ومؤسّسات فنّيّة. إنّ وجود الطاولات في متحف شيء جميل؛ لأنّه يعمل على كسر الصورة النمطيّة لما هو فنّيّ، فهو فنّ غير مدّعٍ. أؤمن بأنّ المعرفة الّتي تخرج من الفنّان أكثر أهمّيّة من الشكل والجماليّات. الأشياء تكون مدروسة حقًّا؛ الملابس والأشخاص المستضافون... تختلف القصص والسرد باختلاف الجغرافيا، لكن يتشابه التفاعل، في فلسطين وخارجها. ما يعنيني ليس أن أقصّ لمَنْ هم خارج فلسطين حكاية سرقة مطبخنا، بل أن أجعل الفلسطينيّ يتذكّر مطبخه؛ فجزء من عمليّة الطمس نحن المسؤولون عنها. إنّ معركتنا ليس على الوصفات، القصص هي الّتي تُسْرَق منّا، وعلينا، من هذا الباب، أن نوسّع مفهوم هويّتنا الفلسطينيّة من خلال استعادة ثراء مطبخنا؛ فالتمزّق الّذي حلّ علينا جعل جدّاتنا يعشن في جغرافيّات لا يعرفنها، أنا من يافا لكنّي لا أعرفها، من الطبيعيّ أن تختفي أطباقنا وأسماؤها. المواسم تغيّرت أيضًا، في كلّ العالم. أن يأكل على طاولة "استضافات فلسطين" أشخاص متقدّمون في السنّ طبقًا أكلوه وهم في العاشرة، هي المعرفة الّتي تعطيني قيمة حقيقيّة. ربّما فقدنا الربط الّذي أنشأناه بين الفنّ والقدرة على التغيير، لكن من خلال هذا المشروع أشعر بأنّ ثمّة مساحة لامتلاك القدرة الشخصيّة، صحيح أنّه يهمّني أن يحافظ الطبق على أصالته، لكن أن ينسج كلٌّ منّا قصّته معه، وأن يجد القطع الناقصة من معرفته.

 

فُسْحَة: وماذا عن الاسم "استضافات فلسطين"؟

ميرنا: وددت لو يظلّ اسم فلسطين حاضرًا، وأن أثبِّت أنّ الفلسطينيّ شخص مضياف، فهو ليس دائمًا اللاجئ والضيف والمسلوب. لا يمكن أن تكون المُضيف دون مكان؛ فكيف من الممكن أن نخلق، بالممارسة، بيتًا يستضيف العالم، ونُطلعه على الثراء والتاريخ الّذي ينعكس في مطبخنا؟ للأسف، ثمّة تسطيح في النظر إلى مطبخنا. لدى الوصفات قدرة على السفر لا تمتلكها أجسادنا؛ مثلًا، صباح هذا اليوم أعددت طبق "المشّ" الغزّاويّ. لقد قَدّم الأكل للناس ما لم تستطع الشعارات السياسيّة فعله. نحن بحاجة إلى تقديم سرديّة شعبنا ومطبخه من جديد، إلى سماع القصص الّتي ربّما لم يكن صوتها عاليًا لتُبَثَّ على التلفاز، لكنّها ذات عمق كافٍ لتبني عائلة، وبطمس هذه القصص طُمِسَ صوت النساء؛ صوت الحروب علا فوقها، لكنّها هي الوحيدة القادرة على أن تُنْجينا من ضياع هويّتنا.

 

فُسْحَة: نحن نقول "المطبخ الفلسطينيّ" دون أن نعرف، على وجه الدقّة، ما الّذي يميّزه من الشاميّ.

ميرنا: وجود القصّة الفلسطينيّة هو ما يميّزه؛ فالأكل قصّة الشعب الّذي يصنعه. شوّه الاستعمار أصالة الأطباق. ثمّة مثلًا أشخاص يقولون إنّ مطبخنا عثمانيّ، إلّا أنّها فكرة احتلاليّة زُرِعَت في أذهاننا. فعليًّا، الاحتلال العثمانيّ هو الّذي تعلّم الأطباق من الجغرافيّات الّتي مرّ منها، كجورجيا وفلسطين وسوريا. أفهم التوجّهات الّتي تُنادي بسفر الطعام، وبأنّ لدى الناس حقًّا في أن يأكلوا ما يحلو لهم دون تسييس للأكل. تمام، لكن ثمّة استلاب لصوت شعب بأكمله. هذا ما يقوم الإسرائيليّون بفعله؛ استلبوا القصّة من وراء الأكل، على الرغم من أنّ جدّاتهم لا يعرفن شيئًا عنه. بالنسبة إليهم، المطبخ الإسرائيليّ يُنْتَج من هذه الأرض، لكن هذه الأرض تحمل قصّة الناس الّذين يعيشون فوقها. هذه دولة تتغذّى على استلاب الأرض والناس، والناس اضطرّوا إلى أن يتحوّلوا من فلّاحين إلى عمّال. ترين مثلًا أنّ المطبخ الإسرائيليّ يدور حول الطحينة. أجريت بحثًا عن تاريخ الطحينة في البلدة القديمة في القدس. إن أردتِ الدخول إلى تاريخ الطحينة وزراعة السمسم والمصانع وغيرها، فستجدين أنّ القصص من ورائها تُشَكِّل تاريخًا كاملًا.

 

فُسْحَة: وكيف توثّقين هذا الجهد الّذي تقومين به؟

ميرنا: أسأل دائمًا إن كنت سأنشر كتبًا، لاحقًا وليس الآن. أضع تركيزي في سرد القصص للناس، وفي استخدام وسائل التواصل الاجتماعيّ، من أجل الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس، الفلسطينيّين وغير الفلسطينيّين.

 

فُسْحَة: وكيف يمكن أشخاصًا آخرين أن يتحمّلوا مسؤوليّة حفظ ذاكرة المطبخ، وألّا يكون المشروع مُلْقًى على كاهلك فحسب؟

ميرنا: أعتبر أنّ "استضافات فلسطين" مشروعي الفنّيّ الّذي يأكل من جسدي ووقتي، أظنّ أنّ مأسسته أو توسيع فريقه سيعود عليه بالضرر. على القائم عليه أن يكون المشروع جزءًا من حياته حتّى يستمرّ.

 

فُسْحَة: هل تعتقدين أنّ ازدياد وعي المجتمع العالميّ تجاه الطعام العضويّ أو الصحّيّ، قد يعيده إلى طعامه التقليديّ والبسيط؟

ميرنا: ربّما نسمّيه الطعام المستدام، هكذا فكّر أجدادنا. السؤال: كيف في استطاعتنا أن نزرع في الجوار، وأن نبحث عن المنتج المحلّيّ؟ لكن في المقابل، فكّر الإسرائيليّون في منع الفلسطينيّين من قطف الزعتر، فأنتجوا منه سوقًا، وضعوه في علب كرتونيّة وباعوه. ما دام الاستعمار يحكم، وتحكم الرأسماليّة السوق، فسنظلّ مستهلكين. لا شكّ في أنّ وعي الناس في ازدياد... أكون مستهلكًا لكن أحاول أن أقلّل من حجم استهلاكي. في نهاية المطاف، مستهلكو المنتجات العضويّة هم مَنْ يملكون المال، وعلى الرغم من صعوبة إحداث تغيير جذريّ في هذه المسألة، إلّا أنّ الناس يفكّرون في الحصول على طعام نظيف لعائلاتهم، ويفكّرون في الاستدامة وفي ضمان مستقبل خالٍ من الجوع. العالم يمرّ بتحوّلات صحّيّة ومجاعات وأوبئة، وعلينا أن نُحْدِثَ تغييرًا ذهنيًّا في فهمنا لهذه التحوّلات خلال حياتنا اليوميّة.

 

فُسْحَة: تضعين جلّ اهتمامك الفكريّ والعمليّ في "استضافات فلسطين"؛ هل يلبّي المشروع أفكارك بصفتك فنّانة بصريّة؟

ميرنا: نعم، فالمسألة تتعلّق بالإبداع الّذي يضعه الفنّان. منذ أن انطلقت "استضافات فلسطين" وجدت منبعًا لا ينضب من المواضيع والجماليّات والمعرفة، الّتي أحتاج إلى حيوات كثيرة حتّى أمتلكها. أنا سريعة الملل، ولديّ أسئلة وجوديّة أمام ممارساتي، لكنّي هنا أشعر بأنّي أغرق في محيط من الفضول. في الوقت الحاليّ، تشغلني المكابيس، وتشغلني أيضًا مسألة فقدان مساحات المونة، واستعادتها من خلال اكتساب هذه المعرفة، وكيف نتصالح مع البكتيريا كي نعيش ونضمن استدامة عيشنا، وكيف نكون مُضيفين خيّرين لهذه الكائنات.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.